الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
وهي أول الحوادث التي حصلت بينهم وهو أن جماعة من عسكر العثمانية تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنساوية فقتل بينهم شخص فرنساوي ووقعت في الناس زعجة وكرشة وأغلقوا الحوانيت وعمل العثمانية متاريس وتترسوا بها بناحية الجمالية وما والاها واجتمعوا هناك ووقع بينهم مناوشة قتل فيها أشخاص قليلة من الفريقين وكادت تكون فتنة وباتوا ليلتهم عازمين على الحرب فتوسطت بينهم كبراء العسكر في تمهيد ذلك وأزالوا المتاريس وانكف الفريقان وبحث مصطفى باشا عمن أثار الفتنة وهم ستة أنفار وأرسلهم الى ساري عسكر الفرنساوية فلم يطب خاطره بذلك. وقال لابد من خروج عسكرهم الى عرضيهم حتى تنقضي الأيام المشروطة وإذا دخل منهم أحد الى المدينة لا يدخلون إلا بطريقة وبدون سلاح فعند ذلك أمر مصطفى باشا بخروج الداخلين من العساكر ولا يبقى منهم أحد ووقف جماعة من الفرنساوية خارج باب النصر فإذا أراد أحد من العسكر أو من أعيان العثمانية الدخول الى المدينة فعند وصوله إليهم ينزل عندهم وينزع ما عليه من السلاح ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان أمامه حتى يقضي شغله ويرجع فإذا وصل الى الفرنساوية الملازمين خارج البلد أعطوه سلاحه فيلبسه ويمضي الى أصحابه فكان هذا شأنهم. وفي منتصفه توجه جماعة من أعيان الفرنساوية الى الاسكندرية بمتاعهم وأثقالهم وفيهم دوجا قائمققام وديزه ساري عسكر الصعيد وبوسليك رئيس الكتاب ومدير الحدود ونزل جماعة منهم الى البحر يريدون السفر الى بلادهم فتعرض لهم الانكليز يريدون معاكستهم فأرسلوا الى ساري عسكر بمصر وعرفوه الحال فأرسل بذلك الى الوزير فأجابه بجواب لم يرتضه وأصبح زاحفًا الى سطح الخانكاه وكان ذلك آخر أيام المهلة المتفق عليها في دخول الوزير الى مصر وخروج الفرنساوية منها فلما رأوا ذلك طلبوا ثمانية أيام أجلة زيادة على أيام المهلة فأجيبوا الى ذلك ووصل الأمراء المصرية وعرضي نصوح باشا وجملة من العساكر العثمانية الى ناحية المطرية ونصبوا خيامهم ووطاقهم هناك ثم إن الفرنساوية جعلوا الثمانية أيام المذكورة ظرفًا لجمع عساكرهم وطوائفهم من البلاد القبلية والبحرية ونصبوا وطاقهم بساحل البحر متصلًا بأطراف مصر ممتدًا من مصر القديمة الى شبرا وترددوا الى نواحي القلاع وهي لم يكن بها أحد وشرعوا واجتهدوا في رد الجبخانة والذخيرة وآلات الحرب والبارود والجلل والمدافع والبنب على العربات ليلًا ونهارًا والناس يتعجبون من ذلك. ومصطفى باشا قائمقام ومن معه يشاهدون ذلك ولا يقولون شيئًا والبعض يقول إن الوزير أرسل إليهم وأمرهم برد ذلك كما كان ونحو ذلك من الخرافات التي لا تروج على الفطن. ويقال إن الفرنساوية أرسل إليهم بعض أصدقائهم من الانكليز وعرفوهم أن الوزير اتفق مع الانكليز على الإحاطة بالفرنساوية إذا صاروا بظاهر البحر فلما حصل منهم معهم ما سبقت الإشارة إليه تحققوا ذلك وأرسلوا ليوسف باشا بذلك فلم يجبهم بجواب شاف وعجل بالرحيل والقدوم ناحية مصر وقد كان الفرنساوية عندما تراسلوا وترددوا جهة والعرضي تفرسوا في عرضي العثمانيين وعساكرهم وأوضاعهم وتحققوا حالهم وعلموا ضعفهم عن مقاومتهم فلما حصر ما ذكر تأهبوا للمقاومة والمحاربة وردوا آلاتهم الى القلاع فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه وقيدوه بها من عساكرهم واستوثقوا من ذلك خرجوا بأجمعهم الى ظاهر المدينة جهة قبة النصر وانتشروا في تلك النواحي ولم يبق بداخل المدينة منهم إلا من كان بداخل القلاع وأشخاص ببيت الألفي بالأزبكية وبعض بيوت الأزبكية وغلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل. وفي العشرين منه طلبوا مصطفى باشا وحسن آغا نزله أمين فلما حضرا إليهم أرسلوهما للجيزة فلما كان اليوم الثالث والعشرين من شوال ركب ساري عسكر كلهبر قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب وقسم عساكره طوابير فمنهم من توجه الى عرضي الوزير ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليها فلم يسعهم إلا الجلاء والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم وركب نصوح باشا ومن كان معه وطلبوا جهة مصر فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من إخوانهم الى جهة العرضي فلما قاربوه أرسلوا الى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره وغالب عساكره مفرقون ومنتشرون في البلاد والقرى والنواحي لجمع المال ومقررات الفرض وظلم الفقراء. وأما أهل مصر فإنهم لما سمعوا صوت المدافع كثر فيهم اللغط والقيل والقال ولم يدركوا حقيقة الحال فهاجوا ورمحوا الى أطارف البلد وقتلوا أشخاصًا من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا الى أصحابهم وذهبت شرذمة من عامة أهل مصر فانتهبت الخشب وبعض ما وجدوه من نحاس وغيره حيث كان عرضي الفرنساوية وخرج السيد عمر أفندي نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر وكذلك حسين آغا شتن أخو أيوب بك الصغير وتبعهم كثير من عامة أهل البلد وتجمعوا على التلول خارج باب النصر وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصي والقليل معه السلاح وكذلك تحزب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات وجعلوا يطوفون بالأزقة وأطارف البلد ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقفونها من اختراعاتهم وخرافاتهم وقاموا على ساق وخرج الكثير منهم الى خارج البلدة على تلك الصورة فلما تضحى النهار حضر بعض الأجناد المصريين ودخلوا مصر وفيهم المجاريح وطفق الناس يسألونهم فلم يخبروهم بشيء لجهلهم أيضًا حقيقة الحال ثم لم يزل الحال كذلك الى أن دخل وقت العصر فوصل جمع عظيم من العامة ممن كان خارج البلدة ولهم صياح وجلبة على الشرح المتقدم وخلفهم ابراهيم بك ثم أخرى وخلفهم سليم آغا ثم أخرى كذلك وخلفهم عثمان كتخدا الدولة ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم وصحبتهم السيد عمر النقيب والسيد أحمد المحروقي وحسن بك الجداوي وعثمان بك المرادي وعثمان بك الأشقر وعثمان بك الشرقاوي وعثمان آغا الخازندار وابراهيم كتخدا مراد بك المعروف بالسناري وصحبتهم مماليكهم وأتباعهم فدخلوا من باب النصر وباب الفتوح ومروا على الجمالية حتى وصلوا الى وكالة ذي الفقار فقال نصوح باشا عند ذلك للعامة: اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم فعندما سمعوا منه ذلك القول صاحوا وهاجوا ورفعوا أصواتهم ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشوام وغيرهم فذهبت طائفة الى حارات النصارى وبيوتهم التي بناحية بين الصورين وباب الشعرية وجهة الموسكي فصاروا يكسبون الدور ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان وينهبون ويأسرون حتى اتصل ذلك بالمسلمين المجاورين لهم فتحزبت النصارى واحترسوا وجمع كل منهم ما قدر عليه من العسكر الفرنساوي والأروام وقد كانوا قبل ذلك محترسين وعندهم الأسلحة والبارود والمقاتلون لظنهم وقوع هذا الأمر فوقع الحرب بين الفريقين وصارت النصارى تقاتل وترمي بالبندق والقرابين من طبقات الدور على المجتمعين بالأزقة من العامة والعسكر ويحامون عن أنفسهم والآخرون يرمون من أسفل ويكبسون الدور ويتسورون عليها وبات نصوح باشا وكتخدا الدولة وابراهيم بك وبعض من صناجق مصر والكشاف والأتباع وطوائف من العساكر بخط الجمالية بوكالة ذي الفقار فلما أصبح الصباح أرسلوا الى المطرية وأحضروا منها ثلاثة مدافع فوجدوها مسدودة الفالية فعالجوها حتى فتحوها وقام ناصف باشا وشمر عن ساعديه وشد وسطه ومشى وصحبته الأمراء المصرية على أقدامهم وجروا أمامهم الثلاثة مدافع وسحبوها الى الأزبكية وضربوا منها على بيت الألفي وكان به أشخاص مرابطون من عساكر الفرنساوية فضربوهم أيضًا بالمدافع والبنادق واستمر الحرب بين الفريقين الى آخر النهار فسكن الحرب وباتوا ينادون بالسهر وفي هذا اليوم وضع أهل مصر والعسكر متاريس بالأطراف كلها وبجهة الأزبكية وشرعوا في بناء بعض جهات السور واجتهدوا في تحصين البلد بقدر الطاقة وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس فلما أظلم الليل أطلق الفرنساوية المدافع والبنب على البلد من القلاع ووالوا الضرب بالخصوص على خط الجمالية لكون المعظم مجتمعًا بها فلما عاين ذلك الجميع أجمع رأي الكبراء والرؤساء على الخروج من البلد في تلك الليلة لعجزهم عن المقاومة وعدم آلات الحرب وعزة الأقوات والقلاع بيد الفرنساوية ومصر لا يمكن محاصرتها لاتساعها وكثرة أهلها وربما طال الحال فلا يجدون الأقوات لأن غالب قوت أهلها يجلب من قراها في كل يوم وربما امتنع وصول ذلك إذا تجسمت الفتنة فاتفقوا على الخروج بالليل. وتسامح الناس بذلك فتجهز المعظم للخروج وغصت الخطة الجمالية وما والاها من الأخطاط بازدحام الناس الذين يريدون الخروج من المدينة وركب بعضهم بعضًا وازدحمت تلك النواحي بالحمير والبغال والخيول والهجن والجمال المحملة بالأثقال وباتوا على تلك الصورة ووقع للناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والانزعاج والخوف ما لا يوصف وتسامع أهل خان الخليلي من الألداشات وبعض مغاربة الفجامين والغورية ذلك فجاءوا للجمالية وشنعوا على من يريد الخروج وعضدهم طائفة عساكر الينكجرية وعمدوا الى خيول الأمراء فحبسوها ببيت القاضي والوكائل وأغلقوا باب النصر وبات في تلك الليلة أصحابهم بالجمالية وفي أزقة الحارات أيضًا وكل متهيئ للخروج. فلما حصل ذلك وأصبح يوم السبت فتهيأ كرباء العساكر والعساكر ومعظم أهل مصر ما عدا الضعيف الذي لا قوة له للحرب وذهب المعظم الى جهة الأزبكية وسكن الكثير في البيوت الخالية والبعض خلف المتاريس وأخذوا عدة مدافع زيادة عن الثلاثة المتقدمة وجدت مدفونة في بعض بيوت الأمراء وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار استعملوها عوضًا عن الجلل للمدافع وصاروا يضربون بها بيت ساري عسكر بالأزبكية واستمر عثمان كتخدا بوكالة ذي الفقار بالجمالية وكان كل من قبض على نصراني ويهودي أو فرنساوي أخذه وذهب به الى الجمالية حيث عثمان كتخدا ويأخذ عليه البقشيش فيحبس البعض حتى يظهر أمره ويقتل البعض ظلمًا وربما قتل العامة من قتلوه وأتوا برأسه لأجل البقشيش وكذلك كل من قطع رأسًا من رؤوس الفرنساوية يذهب بها إما لنصوح باشا بالأزبكية وإما لعثمان كتخدا بالجمالية ويأخذوا في مقابلة ذلك الدراهم وبعد أيام أغلقوا باب القرافة وباب البرقية وباقي الأبواب التي في أطراف البلد وزاد الناس في اصطناع المتاريس وفي الاحتراس وجلس عثمان بك الأشقر عند متاريس باب اللوق وناحية المدابغ وعثمان بك طبل عند متاريس المحجر ومحمد بك المبدول عند الشيخ ريحان ومحمد كاشف أيوب وجماعة أيوب بك الكبير والصغير عند الناصرية ومصطفى بك الكبير بقناطر السباع وسليمان كاشف المحمودي عند سوق السلاح وأولاد القرافة والعامة وزعر الحسينية والعطوف عند باب النصر مع طائفة من الينكجرية وباب الحديد وباب القرافة وجماعة خان الخليلي والجمالية عند باب البرقية المعروف الآن بالغريب وبالجملة كل من كان في حارة من أطراف البلد انضم الى العسكر الذي بجهته بحيث صار جميع أهل مصر والعساكر كلها واقفة بأطراف البلد عند الأبواب والمتاريس والأسوار وبعض عساكر من العثمانية وما انضم إليهم من أهل مصر المتسلحين مكثت بالجمالية إذا جاء صارخ من جهة من الجهات أمدوه بطائفة من هؤلاء وصار جميع أهل مصر إما بالأزقة ليلًا ونهارًا وهو من لا يمكنه القتال. وأما بالأطراف وراء المتاريس وهو من عنده إقدام وتمكن من الحرب ولم ينم أحد ببيته سوى الضعيف والجبان والخائف وناصف باشا وابراهيم بك وجماعاتهم وعسكر من الينجرية والأرنؤد والدلاة وغيرهم جهة الأزبكية ناحية باب الهواء والرحبة الواسعة التي عند جامع أزبك والعتبة الزرقا وأنشاء عثمان كتخدا معملًا للبارود ببيت قائد آغا بخط الخرنفش وأحضر القندقجية والعربجية والحدادين والسباكين لإنشاء مدافع وبنبات وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت وعمل العجل والعربات والجلل وغير ذلك من المهمات الجزئية وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفوع الأشجار والحديد وجمعوا الى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك فصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني واهتم لذلك اهتمامًا زائدًا وأنفق أموالًا جمة وأرسلوا فأحضروا المدافع الكائنة بالمطرية فكانوا كلما أدخلوا مدفعًا أدخلوه بجمع عظيم من الأوباش والحرافيش والأطفال ولهم صياح ونباح وتجاوب بكلمات مثل قولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان وغير ذلك وحضر محمد بك الألفي في ثاني يوم وتترس بناحية السويقة التي عند درب عبد الحق وعطفة البيدق وصحبته طوائفه ومماليكه وأشخاص من العثمانية وبذل الهمة وظهرت منه ومن مماليكه شجاعة وكذلك كشافة وخصوصًا اسمعيل بك كاشف المعروف بأبي قطية فإنه لم يزل يحارب ويزحف حتى ملك ناحية رصيف الخشاب وبيت مراد بك الذي أصله بيت حسن بك الأزبكاوي وبيت أحمد آغا شويكار وتترس فيهما وحسن بك الجداوي تترس بناحية الرويعي. وربما فارق متراسه في بعض الليالي لنصرة جهة أخرى وحضر أيضًا رجل مغربي يقال إنه الذي كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقًا والتف عليه طائفة من المغاربة البلدية وجماعة من الحجازية ممن كان قدم صحبة الجيلاني الذي تقدم ذكره وفعل ذلك الرجل المغربي أمورًا تنكر عليه فكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى فيكبس عليهم ومعه جمع من العوام والعسكر فيقتلون من يجدونه منهم وينهبون الدار ويسحبون النساء ويسلبون ما عليهن من الحلي والثياب ومنهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعًا فيما على رأسها وشعرها من الذهب وتتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم واتهم الشيخ خليل البكري بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة. فهجم عليه طائفة من العسكر مع بعض أوباش العامة ونهبوا داره وسجنوه مع أولاده وحريمه وأحضروه الى الجمالية وهو ماش على أقدامه ورأسه مكشوفة وحصلت له إهانة بالغة وسمع من العامة كلامًا مؤلمًا وشتمًا فلما مثلوه بين يدي عثمان كتخدا هاله ذلك واغتم غمًا شديدًا. ووعده بخير وطيب خاطره وأخذه سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر مع حريمه الى داره وأكرمهم وكساهم وأقاموا عنده حتى انقضت الحادثة وباشر السيد أحمد المحروقي وباقي التجار ومساتير الناس الكلف والنفقات والمآكل والمشارب وكذلك جميع أهل مصر كل إنسان سمح بنفسه وبجميع ما يملكه وأعان بعضهم بعضًا وفعلوا ما في وسعهم وطاقتهم من المعونة وأما الفرنساوية فإنهم تحصنوا بالقلاع المحيطة بالبلد وببيت الألفي وما والاه من البيوت الخاصة بهم والبيوت القبطة المجاورين لهم واستمر الناس بعد دخول الباشا والأمراء ومن معهم من العسكر الى مصر أيامًا قليلة وهم يدخلون ويخرجون من باب الفتوح وباب العدوى وأهل الأرياف القريبة تأتي بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والتبن والغنم فيبيعونه على أهل مصر ثم يرجعون الى بلادهم كل ذلك ولم يعلم أحد حقيقة حال الفرنساوية المتوجهين مع كبيرهم للحرب واختلفت الروايات والأخبار وأما الوزير فإنه لما ارتحل بالعرضي تخلف عنه ببلبيس جملة من العسكر وأما عثمان بك حسن وسليم بك أبو دياب ومن معهما فإنهما تقاتلا مع الفرنساوية ثم رجعا الى بلبيس فحاصروا من بها وكان عثمان بك وسليم بك وعلي باشا الطرابلسي وبعض وجاقلية خرجوا منها وذهبوا الى ناحية العرضي فحارب الفرنساوية من بلبيس من العسكر ولم يكن لهم بهم طاقة فطلبوا الأمان فأمنوهم وأخذوا سلاحهم وأخرجوهم حيث شاؤوا فذهبوا أشتاتًا في الأرياف يتكففون الناس ويأوون الى المساجد الخربة ومات أكثرهم من العري والجوع ثم لما لحق عثمان بك ومن معه بالعرضي ناحية الصالحية وتكلموا مع الوزير وأوجعوه بالكلام فاعتذر إليهم بأعذار ومنها عدم الاستعداد للحرب وتركه معظم الجبخانة والمدافع الكبار بالعريش اتكالًا على أمر الصلح الواقع بين الفريقين وظنه غفلة الفرنساوية عما دبره عليهم مع الانكليز فقال له عثمان بك: أرسل معنا العساكر وانتظرنا هنا فخاطب العسكر وبذل لهم الرغائب فامتنعوا ولم يمتثل منهم إلا المطيع والمتطوع وهم نحو الألف وعادوا على أثرهم وجمعوا منهم من كان مشتتًا ومنتشرًا في البلاد ورجعوا يريدون محاربة الفرنساوية فنزلوا بوهدة بالقرب من القرين لكونهم نظروه في قلة من عسكره وعلمهم بقرب من ذكر منهم فضاربوهم بالنبابيت والحجارة وأصيب سرج ساري عسكر بنبوت فانكسر وسقط ترجمانه الى الأرض وتسامع المسلمون فركبوا لنجدتهم واستصرخ الفرنساوية عساكرهم فلحقوا بهم ووقع الحرب بين الفريقين حتى حال بينهما الليل فانكف الفريقان وانحاز كل فريق ناحية فلما دخل الليل واشتد الظلام أحاط العسكر الفرنساوي بعساكر المسلمين فأصبح المسلمون وقد رأوا إحاطة العسكر بهم من كل جانب فركبت الخيالة وتبعتهم المشاة واخترقوا تلك الدائرة وسلم منهم من سلم وعطب من عطب ورجعوا على إثرهم الى الصالحية فعند ذلك ارتحل الوزير ورجع الى الشام وأما مراد بك فإنه بمجرد ما عاين هجوم الفرنسيس على اباشا والأمراء بالمطرية. وكان هو بناحية الجبل ركب من ساعته هو ومن معه ومروا من سفح الجبل وذهب الى ناحية دير الطين ينتظر ما يحصل من الأمور وأقام مطمئنًا على نفسه واعتزل الفريقين واستمر على صلحه مع الفرنساوية هذا حاصل خبر الشرقيين ولما تحقق الباشا والأمراء الذين انحصروا بمصر ذلك أخفوه بينهم وأشاعوا خلافة لئلا تنحل عزائم الناس عن القتال وتضعف نفوسهم واستمر الباشا يظهر كتابة المراسلات وإرسال السعاة في طلب النجدة والمعونة. وربما افتعلوا أجوبة فزوروها على الناس فتزوج عليهم وتسرى في غفلتهم ويقولون للناس في كل وقت إن حضرة الصدر الأعظم مجتهد في محاربة الفرنسيس وفي غد أو بعد غد يقوم بالعساكر والجنود بعد قطع العدو وعند حضوره ووصوله يحصل تمام الفتح وتهدم العساكر القلاع وتقلبها على من يبقى من الفرنساوية وبعد ذلك ينظم البلاد ويريح العباد واجتهدوا فيما أنتم فيه وتابعوا المناداة على الناس والعسكر باللسان العربي والتركي بالتحريض والاجتهاد والحرص على الصبر والقتال وملاقاة العدو ونحو ذلك ووصل طائفة من عسكر الفرنساوية ورجعوا من عرضيهم نجدة لأصحابهم الذين بمصر فقويت بهم نفوس الكائنين بمصر ووقفت منهم طائفة خارج باب النصر وخارج باب الحسينية ونهبوا زاوية الدمرداش وما حولها كقبة الغوري والمنيل وحضر نحو خمسمائة من عسكر الأرنؤد وهم الذين كان الوزير وجههم الى القرى لقبض الكلف والفرض فلما قربوا من مصر عارضهم عسكر الفرنساوية الواقفة على التلول الخارجة فحاموا ودافعوا عن أنفسهم وخلصوا منهم ودخلوا الى مصر وفرح الناس لقدومهم وضجت القلعة بحضورهم واشتدت قواهم واتفقوا أن يقولوا للناس إذا سئلوا أنهم حاضرون مددًا وسيأتي في إثرهم عشرون ألفًا وعليهم كبير ونحو ذلك وأما بولاق فإنها قامت على ساق واحد وتحزم الحاج مصطفى ابشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم وأسلحتهم ورمحوا وصفحوا وأول ما بدؤوا به أنهم ذهبوا الى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر وعنده حرسية منهم فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره ورجعوا الى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية وأخذوا ما أحبوا منها وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس واستعدوا للحرب والجهاد وقوي في رأسهم العناد واستطالوا على من كان ساكنًا ببولاق من نصارى القبط والشوام فأوقعوا بهم بعض النهب وربما قتل منهم أشخاص هذا ما كان من أمر هؤلاء وأما ما كان من أمر ساري عسكر الفرنساوية ومن معه فإنه لما استوثق بهزيمة الوزير وعدم عوده ونجاته بنفسه لم يزل لخفه حتى بعد عن الصالحية فأبقى بها بعضًا من عسكر الفرنسيس محافظين وكذلك بالقرين وبلبيس ورجع الى مصر وقد بلغت الأخبار بما حصل من دخول ناصف باشا والأمراء وقيام الرعية فلم يزل حتى وصل الى داره بالأزبكية وأحاطت العساكر الفرنساوية بالمدينة وبولاق من خارج ومنعوا الداخل من الدخول والخارج من الخروج وذلك بعد ثمانية أيام من ابتداء الحركة وقطعوا الجالب عن البلدين وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم فكانت جماعة من المفوضين لهم المحصورين داخل المدينة كبعض القبطة ونصارى الشوام وغيرهم يهربون إليهم ويتسلقون من الأسوار والحيطان بحريمهم وأولادهم فعند ذلك اشتد الحرب وعظم الكرب وأكثروا من الرمي المتتابع بالمكاحل والمدافع وأكثروا وأوصلوا وقع القنابر والبنبات من أعالي التلول والقلعات خصوصًا البنبات الكبار على الدوام والاستمرار آناء الليل وأطراف النهار في الغدو والبكور والأسحار وعدمت الأقوات وغلت أسعار المبيعات وعزت المأكولات وفقدت الحبوب والغلات وارتفع وجود الخبز من الأسواق وامتنع الطوافون به على الأطباق وصارت العساكر الذين مع الناس بالبلد يحفظون ما يجدونه بأيدي الناس من المآكل والمشارب وغلا سعر الماء المأخوذ من الآبار أو الأسبلة حتى بلغ سعر القربة نيفًا وستين نصفًا وأما البحر فلا يكاد يصل إليه أحد وتكفل التجار ومساتير الناس والأعيان بكلف العساكر المقيمين بالمتاريس المجاورة لهم فألزموا الشيخ السادات بكلفة الذين عند قناطر السباع وهم مصطفى بك ومن معه من العساكر وأما أكابر القبط مثل جرجس الجوهري وفلتيوس وملطي فإنهم طلبوا الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وهم في وسطهم وخافوا على نهب دورهم إذا خرجوا فارين فأرسلوا إليهم الأمان فحضروا وقابلوا الباشا والكتخدا والأمراء وأعانوهم بالمال واللوازم وأما يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه هذا والمناداة في كل وقت بالعربي والتركي على الناس بالجهاد والمحافظة على المتاريس واتهم مصطفى آغا مستحفظان بموالاته للفرنساوية وأنه عنده في بيته جماعة من الفرنسيس. فهجمت العساكر على داره بدرب الحجر فوجدوا أنفارًا قليلة من الفرنسيس فقاتلوا وحاموا عن أنفسهم وقتل منهم البعض وهرب البعض على حمية حتى خلصوا الى الناصرية وأما الآغا فإنهم قبضوا عليه وأحضروه بين يدي عثمان كتخدا ثم تسلمه الانكشارية وخنقوه ليلًا بالوكالة التي عند باب النصر ورموا جيفته على مزبلة خارج البلد واستقر عوضه شاهين كاشف الساكن بالخرنفش فاجتهد وشدد على الناس وكرر المناداة ومنعهم من دخول الدور وكل من وجده داخل داره مقته وضربه فكان الناس يبيتون بالأزقة والأسواق حتى الأمراء والأعيان وهلكت البهائم من الجوع لعدم وجود العلف من التين والفول والشعير والدريس. بحيث صار ينادي على الحمار أو البغل المعدد الذي قيمته ثلاثون ريالًا وأكثر بمائة نصف فضة أو ريال واحدًا وأقل ولا يوجد من يشتريه وفي كل يوم يتضاعف الحال وتعظم الأهوال وزحف المسلمون على جهة رصيف الخشاب وترامى الفريقان بالمدافع والنيران حتى احترق ما بينهم من الدور وكان اسمعيل بك كاشف الألفي تحصن ببيت أحمد آغا شويكار الذي كان بيته وقد كان الفرنساوية جعلوا به لغمًا بالبارود المدفون فاشتعل ذلك اللغم ورفع ما فوقه من الأبنية والناس وطاروا في الهواء واحترقوا عن آخرهم وفيهم اسمعيل كاشف المذكور وانهدم جميع ما هناك من الدور والمباني العظيمة والقصور المطلة على البركة واحترق جميع البيوت التي من عند بين المفارق بقرب جامع عثمان كتخدا الى رصيف الخشاب والخطة المعروفة بالساكت بأجمعها الى الرحبة المقابلة لبيت الألفي سكن ساري عسكر الفرنساوية وكذلك خطة الفوالة بأسرها وكذلك خط الرويعي بالسباط العظيمين وما في ضمن ذلك من البيوت الى حد حارة النصارى وصارت كلها تلالًا وخرائب كأنها لم تكن مغني صبابات ولا مواطن أنس ونزاهات وقد جنت عليها أيدي الزمان وطوارق الحدثان حتى تبدلت محاسنها وأقفرت مساكنها وهكذا عقبى سوء ما عملوا فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا. وأرسلوا الى مراد بك يطلبونه للحضور أو يرسلوا الأمراء والأجناد التي عنده فأرسل يعتذر عن الحضور ويقول إنه محافظ على الجهة التي هو فيها فأرسلوا إليه بالإرسال والاستكشاف عن أمر الوزير فأرسل يخبر أنه أرسل هجانًا الى الشرق من نحو عشرة أيام والى الآن لم يحضر وأن الفرنساوية إذا ظفروا بالعثمانية لا يقتلونهم ولا يضربونهم وأنتم كذلك معهم. فاقبلوا نصحي واطلبوا الصلح معهم واخرجوا سالمين فلما بلغهم تلك الرسالة حنق حسن بك الجداوي وعثمان بك الأشقر وغيرهم وسفهوا رأيه وقالوا: كيف يصح هذا الأمر وقد دخلنا الى البلد وملكناها فكيف نخرج منها طائعين ونحو ذلك هذا مما لا يكون أبدًا فأشار ابراهيم بك برجوع البرديسي وصحبته عثمان بك الأشقر ليقول الأشقر لمراد بك ما يقوله فلما اجتمع به ورجع لم يرجع على ما كان عليه حال ذهابه وفترت همته وجنح لرأي مراد بك واستمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب وشدة البلاء والكرب ووقوع البنبات على الدور والمساكن من القلاع والهدم والحرق وصراخ النساء من البيوت والصغار من الخوف والجزع والهلع مع القحط وفقد المآكل والمشارب وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز. ووقوف حال الناس من البيع والشراء وتفليس الناس وعدم وجدان ما ينفقونه إن وجدوا شيئًا. واستمر ضرب المدافع والقناير والبنادق والنيران ليلًا ونهارًا حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة لطيفة من الزمن ومقامهم دائمًا أبدًا بالأزقة والأسواق وكأنما على رؤوسهم الجميع الطير وأما النساء والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات تحت طباق الأبنية الى غير ذلك. وفي أثناء ذلك فرضوا على الناس من أهل الأسواق وغيرهم مائة كيس فردوها على بعض الناس كالسادات والصاري وصار مؤونة غالب الناس الأرز ويطبخونه بالعسل واللبن. ويبيعون ذلك في طشوت وأوان بالأسواق وفي كل ساعة تهجم العساكر الفرنساوية على جهة من الجهات ويحاربون الذين بها ويملكون منهم بعض المتاريس فيصيحون على بعضهم بالمناداة يتسامع الناس ويصرخون على بعضهم البعض ويقولون: عليكم بالجهة الفلانية الحقوا إخوانكم المسلمين فيرمحون الى تلك الخطة والمتاريس حتى يجلوهم عنها وينتقلون الى غيرها فيفعلون كذلك وكان المحتمل لغالب هذه المدافعات حسن بك الجداوي فإنه كان عندما يبلغه زحف الفرنساوية على جهة من الجهات يبادر هو ومن معه للذهاب لنصرة تلك الجهة ورأى الناس من إقدامه وشجاعته وصبره على مجالدة العدو ليلًا ونهارًا ما ينبئ عن فضيلة نفس وقوة قلب وسمو همة وقل أن وقع حرب في جهة من الجهات إلا وهو مدير رحاها ورئيس كماتها هذا والآغا والوالي يكررون المناداة وكذلك المشايخ والفقهاء والسيد أحمد المحروقي والسيد عمر النقيب يمرون كل الوقت ويأمرون الناس بالقتال ويحرضونهم على الجهاد وكذلك بعض العثمانية يطوفون من أتباع الشرطة وينادون باللغة التركية مثل ذلك وجرى على الناس ما لا يسطر في كتاب ولم يكن لأحد في حساب ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلًا عن جزئياته منها عدم النوم ليلًا ونهارًا وعدم الطمأينة وغلو الأقوات وفقد الكثير منها خصوصًا الأدهان وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق ومغالبة الجهلاء على العقلاء وتطاول السفهاء على الرؤساء وتهور العامة ولغط الحرافيش وغير ذلك مما لا يمكن حصره ولم يزل الحال على هذا المنوال الى نحو عشرة أيام وكل هذا والرسل من قبل الفرنساوية وهم عثمان بك البرديسي تارة ومصطفى كاشف ورستم تارة أخرى والاثنان من أتباع مراد بك يترددون في شأن الصلح وخروج العساكر العثمانية من مصر والتهديد بحرقها وهدمها إذا لم يتم هذا الغرض واستمروا على هذا العناد ثم نصب الفرنساوية في وسط البركة فساطًا لطيفًا وأقاموا عليه علمًا وأبطلوا الرمي تلك الليلة وأرسلوا رسولًا من قبلهم الى الباشا والكتخدا والأمراء يطلبون المشايخ يتكلمون معهم في شأن هذا الأمر فأرسلوا الشرقاوي والمهدي والسرسي والفيومي وغيرهم فلما وصلوا الى ساري عسكر وجلسوا خاطبهم على لسان الترجمان بما حاصله أن ساري عسكر قد أمن أهل مصر أمانًا شافيًا وأن الباشا والكتخدا ومن معهما من العساكر العثمانية يخرجون من مصر ويلحقون بالعرضي وعلى الفرنساوية القيام بما يحتاجون إليه من المؤونة والذخيرة حتى يصلوا الى معسكرهم وأما الأجناد المصرية الداخلة معهم فمن أراد منهم المقام بمصر من المماليك والغز الداخلين معهم فليقم وله الإكرام ومن أراد الخروج فليخرج والجرحى من العثملي يجردون من سلاحهم وإن كان يأخذه الكتخدا فليأخذه وعلينا أن نداويهم حتى يبرأوا ومن أقام بعد البرء منهم فعلينا مؤونته ومن أراد الخروج بعد برئه فليخرج وعلى أهل مصر الأمان فإنهم رعيتنا وتوافقوا على ذلك وتراضوا عليه ولما كان الغد وشاع أمر الموادعة واستفيض أمر الصلح على هذا قالوا لهم لأي شيء تفعلون هذا الفعل وهذه المحاربات والوزير ولى مهزومًا ورجع هاربًا ولا يمكن عوده في هذا الحين إلا أن يكون بعد ستة أشهر فاعتذروا له بأن هذا من فعل ناصف باشا وكتخدا الدولة: وابراهيم بك ومن معهم فإنهم هم الذين أثاروا الفتنة وهيجوا الرعايا ومنوا الناس الأماني الكاذبة والعامة لا عقول لهم فقالوا لهم بعد كلام طويل: قولوا لهم يتركون القتال ويخرجون فيلحقون بوزيرهم فإنهم لا طاقة لهم على حربنا ويكونون سببًا لهلاك الرعية وحرق البلدين مصر وبولاق فقالوا له: نخشى أنهم إذا امتثلوا وجنحوا للموادعة وخرجوا وذهبوا الى ساري عسكرهم تنتقمون منا ومن الرعايا بعد ذلك فقالوا: لا نفعل ذلك فإنهم إذا رضوا ومنعوا الحرب اجتمعنا معكم وإياهم وعقدنا صلحًا ولا نطالبكم بشيء والذي قتل منا في نظير الذي قتل منكم وزودناهم وأعطيناهم ما يحتاجون من خيل وجمال وأصبحنا معهم من يوصلهم الى مأمنهم من عسكرنا ولا نضر أحدًا بعد ذلك فلما رجع المشايخ بهذا الكلام وسمعه الانكشارية والناس قاموا عليهم وسبوهم وشتموهم وضربوا الشرقاوي والسرسي ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس ومرادهم خذلان المسلمين وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس وتكلم السفلة والغوغاء من أمثال هذا الفضول وتشدد في ذلك الرجل المغربي الملتف عليه أخلاط العالم ونادى من عند نفسه: الصلح منقوض وعليكم بالجهاد ومن تأخر عنه ضرب عنقه وكان السادات ببيت الصاري فتحير واحتال بأن خرج وأمامه شخص ينادي بقوله: الزموا المتاريس ليقي بذلك نفسه من العامة ووافق ذلك أغراض العامة لعدم إدراكهم لعواقب الأمور فالتوا عليهم وتعضد كل بالآخر وأن غرضه هو في دوام الفتنة فإن بها يتوصل لما يريد من النهب والسلب والتصور بصوره الإمارة باجتماع الأوغاد عليه وتكفل الناس له بالمأكل والمشرب هو ومن انضم إليه واشتطاط في المآكل مع فقد الناس لا دون ما يؤكل حتى أنه كان إذا نزل جهة من جهات المدينة لإظهار أنه يريد المعونة أو الحرس فيقدمون له بالطعام فيقول: لا آكل إلا الفراخ ويظهر أنه صائم فيكلف أهل تلك الجهة أنواع المشقات والتكلفات بتعنته في هذه الشدة بطلب أفحش المأكولات وما هو مفقود ثم هو مع ذلك لا يغني شيئًا بل إذا دهم العدو تلك الجهة التي هو فيها فارقها وانتقل لغيرها وهكذا كان ديدنه ثم هو ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك بل كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي فإذا قدر ما قدر تخلص مع حزبه الى بعض الجهات والتحق بالريف أو غيره وحينئذ يكون كآحاد الناس ويرجع لحالته الأولى وتبطل الهيئة الاجتماعية التي جعلها لجلب الدنيا فخًا منصوبًا ومخرق بها على سخاف العقول وإخفاء الأحلام وهكذا حال الفتن تكثر فيها الدجاجلة ولو أن نيته ممحضة لخصوص الجهاد لكانت شواهد علانيته أظهر من نار على علم أو اقتحم كغيره ممن سمعنا عنهم من المخلصين في الجهات وفي بيع أنفسهم في مرضاة رب العباد لظا الهيجاء ولم يتعنت على الفقراء ولم يجعل ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وبالجملة فكان هذا الرجل سببًا في تهدم أغلب المنازل بالأزبكية ومن جملة ما رميت به مصر من البلاء وكان ممن ينادى به عليه حين أشيع أمر الصلح وتكلم به الأشياخ: الصلح منقوض وعليكم بالجهاد ومن تأخر ضرب عنقه وهذا منه أفتيات وفضول ودخول فيما لا يعني حيث كان في البلد مثل الباشا والكتخدا والأمراء المصرية فما قدر هذا الأهوج حتى ينقض صلحًا أو يبرمه وأي شيء يكون هو حتى ينادي أو ينصب نفسه بدون أن ينصبه أحد لذلك: لكنها الفتن يشتنسر بها البغات سيما عند هيجان العامة وثوران الرعاع والغوغاء إذ كان ذلك مما يوافق أغراضهم على أن المشايخ لم يأمروا بشيء ولم يذكروا صلحًا ولا غيره إنما بلغوا صورة المجلس الذي طلبوا لأجله لحضرة الكتخدا فبمجرد ذلك قامت عليهم العامة هذا المقام وسبوهم وشتموهم بل وضربوهم وبعضهم رموا بعمامته الى الأرض وأسمعوهم قبيح الكلام وفعلوا معهم ما فعلوا وصاروا يقولون: لولا أن الكفرة الملاعين تبين لهم الغلب والعجز ما طلبوا المصالحة والموادعة وأن بارودهم وذخيرتهم فرغت ونحو ذلك من الظنون الفاسدة ولم يردوا عليهم جوابًا بل ضربوا بالمدافع والبنادق فأرسلوا أيضًا رسلًا يسألونهم عن الجواب الذي توجه به المشايخ فأرسل إليهم الباشا والكتخدا يقولان لهم: إن العساكر لم يرضوا بذلك ويقولون لا نرجع عن حربهم حتى نظفر بهم أو نموت عن آخرنا وليس في قدرتنا قهرهم على الصلح فأرسل الفرنساوية جواب ذلك في ورقة يقولون في ضمنها: قد عجبنا من قولكم إن العساكر لم ترض بالصلح وكيف يكون الأمير أميرًا على جيش ولا ينفذ أمره فيهم ونحو ذلك وأرسلوا أيضًا رسولًا الى أهل بولاق يطلبونهم للصلح وترك الحرب ويحذرونهم عاقبة ذلك فلم يرضوا وصمموا على العناد فكرروا عليهم المراسلة وهم لا يزدادون إلا مخالفة وشغبًا فأرسلوا في خامس مرة فرنساويًا يقول: أمان أمان سوا سوا وبيده ورقة من ساري عسكر فأنزلوه من على فرسه وقتلوه وظن كامل أهل مصر أنهم إنما يطلبون صلحهم عن عجز وضعف وأشعلوا نيران القتال وجدوا في الحرب من غير انفصال. والفرنساوية لم يقصروا كذلك وراسلوا رمي المدافع والقنابر والبندق المتكاثر وحضر الألفي الى عثمان كتخدا برأي ابتدعه ظن أن فيه الصواب وهو أن يرفعوا على هلالات المنارات أعلامًا نهارًا ويوقدون عليها القناديل ليلًا ليرى ذلك العسكر القادم فيهتدي ويعلمون أن البلد بيد المسلمين وأنهم منصورون وكذلك صنع معهم أهل بولاق وذلك لغلبة ظن الناس أن هناك عسكرًا قادمين لنجدتهم. وظن أهل بولاق أن الباعث على ذلك نصرتهم فصمموا على ذلك للحرب واستمر هذا الحال بين الفريقين الى يوم الخميس ثاني عشرينه الموافق لعاشر برموده القبطي وسادس نيسان الرومي فغيمت السماء غيمًا كثيفًا وأرعدت رعدًا مزعجًا عنيفًا وأمطرت مطرًا غزيرًا وسيلت سيلًا كثيرًا فسالت المياه في الجهات وتوحلت جميع السكك والطرقات فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال ولطخت الأمراء والعساكر بسراويلهم ومراكيبهم بالطين. والفرنساوية هجموا على مصر وبولاق من كل ناحية ولم يبالوا بالأمطار لأنهم في خارج الأفنية وهي لا تتأثر بالمياه كداخل الأبنية وعندهم الاستعداد والتحفظ والخفة في ملابسهم وما على رؤوسهم وكذلك أسلحتهم وعددهم وصنائعهم بخلاف المسلمين فلما حصل ذلك اغتنموا الفرصة وهجموا على البلدين من كل ناحية وعملوا فتائل مغمسة بالزيت والقطران وكعكات غليظة ملوية على أعناقهم معمولة بالنفط والمياه المصنوعة المقطرة التي تشتعل ويقوى لهبها بالماء وكان معظم كبستهم من ناحية باب الحديد وكوم أبي الريش وجهة بركة الرطلي وقنطرة الحاجب وجهة الحسينية والرميلة فكانوا يرمون المدافع والبنبات من قلعة جامع الظاهر وقلعة قنطرة الليمون ويهجمون أيضًا وأمامهم المدافع وطائفة خلفهم بواردية يقال لهم السلطات يرمون بالبندق المتتابع وطائفة بأيديهم الفتائل والكعكات المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقائف وضرف الحوانيت وشبابيك الدور ويزحفون على هذه الصورة شيئًا فشيئًا. والمسلمون أيضًا بذلوا جهدهم وقاتلوا بشدة همتهم وعزمهم وتحول الآغا وأكثر الناس الى تلك الجهة وزلزلوا في ذلك اليوم والليلة زلزالًا شديدًا وهاجت العامة وصرخت النساء والصبيان ونطوا من الحيطان والنيران تأخذ المتوسطين بين الفئتين من كل جهة هذا والأمطار تسح حصة من النهار وكذلك بالليل من ليلة الجمعة وكذلك الرعد والبرق وعثمان بك الأشقر الابراهيمي وعثمان بك البرديسي المرادي ومصطفى كاشف رستم يذهبون ويجيئون من الفرنسيس الى المسلمين ومن الفرنسيس إليهم ويسعون في الصلح بين الفريقين. ثم إنهم هجموا على بولاق من ناحية البحر ومن ناحية بوابة أبي العلا بالطريقة المذكورة بعضها وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم وحصروهم من كل جهة وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبلوا بالنهب والسلب وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما يشيب من هوله النواصي وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة واحترقت الأبنية والدور والقصور وخصوصًا البيوت والرباع المطلة على البحر وكذلك الأطارف وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم الى الجهة القبلية ثم أحاطوا بالبلد ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأبازير والأرز والأدهان والأصناف العطرية وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور والذي وجدوه منعكفًا في داره أو طبقته ولم يقاتل ولم يجدوا عنده سلاحًا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيًا وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم. وذلك يوم الجمعة ثالث عشرينه وكان محمد الطويل كاتب الفرنساوية أخذ منهم أمانًا لنفسه وأوهم أصحابه أنه يحارب معهم وفي وقت هجوم العساكر انفصل إليهم واختفى البشتيلي. فدلوا عليه وقبضوا على وكيله وعلى الرؤساء فحبسوا البشتيلي بالقلعة والباقي ببيت ساري عسكر وضيقوا عليهم حتى منعوهم البول وفي اليوم الثالث أطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة وسلموهم البشتيلي وأمروهم أن يقتلوه بأيديهم لدعواهم أنه هو الذي كان يحرك الفتنة ويمنعهم الصلح وأنه كاتب عثمان كتخدا بمكتوب قال فيه: إن الكلب دعانا للصلح فأبينا منه وأرسله مع رجل ليوصله الى الكتخدا فوقع في يد ساري عسكر كلهبر فحركه ذلك على أخذ بولاق وفعله فيها الذي فعله وقوبل على ذلك بأن أسلم الى عصبته وأمروا أن يطوفوا به البلد ثم يقتلوه ففعلوا ذلك وقتلوه بالنبابيت وألزم أهل بولاق بأن يرتبوا ديوانًا لفصل الأحكام. وقيدوا فيه تسعة من رؤسائهم ثم بعد مضي يومين ألزموا بغرامة مائتي ألف ريال وأما المدينة فلم يزل الحال بها على النسق المتقدم من الحرب والكرب والنهب والسلب الى سادس عشرينه حتى ضاق خناق الناس من استمرار الانزعاج والحريق والسهر وعدم الراحة لحظة من الليل والنهار مع ما هم فيه من عدم القوت حتى هلكت الناس وخصوصًا الفقراء والدواب وإيذاء عسكر العثمانلي للرعية وخطفهم ما يجدونه معهم حتى تمنوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها والحال كل وقت في الزيادة وأمر المسلمين في ضعف لعدم الميرة والمدد والفرنساوية بالعكس وفي لك يوم يزحفون الى قدام والمسلمون الى وراء فدخلوا من ناحية باب الحديد وناحية كوم أبي الريش وقنطرة الحاجب وتلك النواحي وهم يحرقون بالفتائل والنيران الموقدة ويملكون المتاريس الى أن وصلوا من ناحية قنطرية الحروبي وناحية باب الحديد الى قرب باب الشعرية. وكان شاهين آغا هناك عند المتاريس فأصابته جراحه فقام من مكانه ورجع القهقرى فعند رجوعه وقعت الهزيمة ورجع الناس يدوسون بعضهم البعض. وملك الفرنساوية كوم أبي الريش وصاروا يحاربون من كوم أبي الريش وهم في العلو والمسلمون أسفل منهم وكان المحروقي زور كتابًا على لسان الوزير وجاء به رجل يقول إنه رسول الوزير وإنه اختفى في طريق خفية ونط من السور وإن الوزير يقدم بعد يومين أو ثلاثة وإنه ترك بالصالحية وإن ذلك كذب لا أصل له وأن يكتب جوابًا عن فرمان كتبوه على لسان المشايخ والتجار وأرسلوه الى الوزير في أثناء الواقعة. هذا والبرديسي ومصطفى كاشف والأشقر يسعون في أمر الصلح الى أن تموه على كف الحرب وأن الفرنساوية يمهلون العثمانية والأمراء ثلاثة أيام حتى يقضوا أشغالهم ويذهبون حيث أتوا وجعلوا الخليج حدًا بين الفريقين لا يتعدى أحد من الفريقين بر الخليج الآخر وأبطلوا الحرب وأخمدوا النيران وتركوا القتال وأخذ العثمانية والأمراء والعسكر في أهبة الرحيل وقضاء أشغالهم وزودهم الفرنساوية وأعطوهم دراهم وجمالًا وغير ذلك وكتبوا بعقد الصلح فرمانًا مضمونه أنهم يعوقون عندهم عثمان بك البرديسي وعثمان بك الأشقر ويرسلون ثلاثة أنفار من أعيانهم يكونون بصحبة عثمان كتخدا حتى يصل الى الصالحية وأن يوصلهم ساري عسكر داماس بثلثمائة من العسكر خوفًا عليهم من العرب وأن من جاء منهم من جهة يرجع إليها ومن أراد الخروج من أهل مصر معكم فليخرج ما عدا عثمان بك الأشقر فإنه إذا رجع الثلاثة مع الفرنساوية يذهب مع البرديسي الى مراد بك بالصعيد وأرسلوا الثلاثة المذكورين الى وكالة ذي الفقار بالجمالية وأجلسوهم بمسجد الجمالي صحبة نصوح باشا فهاجت العامة وراموا قتلهم وهموا بقتل عثمان كتخدا فأغلق دونهم باب الخان ومنع نصوح باشا العامة من الهجوم على المسجد وركب المغربي فتوجه الى الحسينية وطلب محاربة الفرنسيس فحضر أهل الحسينية الى عثمان كتخدا يستأذنونه في موافقة ذلك المغربي أو منعه. فأمر بمنعه وكفهم عن القتال وركب المحروقي عند ذلك ومر بسوق الخشب وقدامه المناداة بأن لا صلح ولزوم المتاريس ثم فتح باب الوكالة وخرج منها عسكر بالعصي فهاجوا في العامة ففروا وسكن الحال. واستهل
|